بسم الله الرحمن الرحيم

///////////////////////////////

التكنولوجيا وثورات الربيع العربي          ا.م.د سرمد العبيدي

====  =============  ====  ================  ==== 

لا احد يشك مطلقا في استبداد وسلطوية النظم السياسية العربية التي حكمت طوال الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية وبدايات مرحلة حصول البلدان العربية على استقلالها عن الدول التي استعمرتها في المراحل السابقة ،وقد حصلت هذه النظم على شرعية وجودها عبر طريقين”

الأول – هو عبر تفاهمات مع حكومات الدول الاستعمارية للحصول على الاستقلال ، حتى اذا ماتم لها ذلك أحكمت قبضتها على السلطة الناشئة وأحاطت نفسها بأسوار عالية تعزلها عن البيئة التي خرجت منها وأوصلتها الى سدة الحكم. وسرعان ماتحولت تلك الانظمة الى طواطم بنيت حولها الأساطير ووظفت من أجل ديمومة حكمها كل الوسائل التي تدرجت في طبيعتها حتى استقرت في ساحة العنف المطلق الموجه ضد معارضيها وضد رغبات شعوبها في التغيير.

الثاني – هو الشرعية الثورية التي استندت اليها الكثير من هذه النظم لتدعيم سلطتها عبر الزمان خصوصا في البلدان العربية الرئيسة كمصر وسوريا والعراق واليمن او في البلدان العربية الاخرى مثل ليبيا وتونس والجزائر… الخ ، الا أن هذه الشرعية سرعان ما تحولت الى حق مكتسب لابد من التمسك به وتوريثه في اطار العائلة الواحدة ولو تطلب الأمر الانقلاب على الشرعية الثورية ورفاقها وتصفية وجودهما في الحياة السياسية وصولا الى الحكم الفردي المطلق الذي يوظف هو الآخر وسائل العنف المفرط من أجل البقاء.

وفي كلا النموذجين تحول العنف من اداة تمارس ضد الشعوب الى وظيفة بارزة من وظائف هذه النظم التي تمتعت ولعقود طويلة اما برعاية القوى المتحكمة في النظام الدولي شرقية كانت او غربية او بغض النظر المقصود عن جرائمها بحق شعوبها اكراما لوظائفها التي كانت تؤديها في خدمة التوازن الدولي القائم . هذه الرعاية وغض النظر اكد لهذه النظم أحقيتها في البقاء مثلما أعطاها جرعة مضاعفة من الثقة في تلاشي بدائلها فأوغلت في فردنة السلطة وتوريثها وتصفية خصومها.

لكن نهاية التوازن الدولي عقب انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه دفة الشؤون العالمية ومن ثم ترتيبها لولادة النظام العالمي الجديد بسياقاته ومحدداته التي أعلن عنها في اطار مقررات مؤتمر باريس للأمن والتعاون الاقتصادي في أوروبا يوم الخامس عشر من شباط 1990 والتي خولت الدول الغربية عبر ضفتي الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية صلاحيات واسعة في تصفية تركة النظام الدولي السابق على مستوى العالم وعلى المستويات الاقليمية وخولته أيضا التصدي لتطبيق قيم النظام العالمي الجديد المتمثلة في نشر الديموقراطية ومكافحة الارهاب والقضاء على النظم الشمولية واحترام حقوق الانسان وحماية الاقليات . هذه المعطيات كانت مؤشرا مهما على نهاية وظائف النظم القائمة بالصفات التي طبعتها .. لكن ثقتها المفرطة بنفسها والتي سبق الاشارة اليها واعتقادها بحقوقها الحصرية في الحكم فوت عليها فرص فهم حقيقة مايجري في العالم وحتمية انعكاس التغير الحاصل على مستوى النظام الدولي على بنية النظم الاقليمية القائمة فتعارض بذلك وجودها مع متطلبات عمل النظام العالمي الجديد فكان لابد من التغيير.

وفات أيضا على النظم القائمة ان الزمن قد تغير هو الآخر وان ماكان ممكنا في الماضي أصبح من المستحيلات في يومنا الحالي.. وان قمع الشعوب وذبحها بالجملة لن يمر بيسر كما كان الأمر يجري في السابق.. فمذابح السجون العربية والمدن العربية الثائرة خلال العقود الماضية لم تجد من ينتصر لها لأن خبرها جاء متاخرا والشاهد عليها هو النظام نفسه دون غيره ومن بقي من الشعوب يختار الانزواء.. لكن الصورة حاضرة اليوم والطلقة التي تطلقها قوات هذه النظم يسمع ازيز مرورها الى جسد الضحايا في كل عواصم ومدن الدنيا ومجنزرات الحكومات المستبدة تصور حركتها في مدن الثورة كاميرات رقمية متطورة يحملها الجميع في الهواتف النقالة التي تبثها مباشرة وعبر الأقمار الصناعية الى كل مليمتر في عالم لم يعد فيه مكان للاختباء ، وصارت اجتماعات الثوار تتم عبر الفيس بوك والتويتر وبياناتها تتلى على الشبكة العنكبوتية ليتلقفها الجميع في نفس اللحظة وحتى قبل أن يطلع عليها النظام نفسه او يتمكن من ملاحقة مواقعها ، وبات التحشيد للتظاهر يتم في لحظة واحدة عبر الرسائل النصية التي تستلمها جوالات الثائرين في كل مكان ، وصور قمع التظاهرات وأشلاء الضحايات تبث مباشرة من مواقع الحدث الى كل شاشات الفضائيات لتعطي تصورا واضحا لما يجري دون رتوش ،وتلاشت هذه المرة قدرة النظم على تغطية عين الشمس بغرابيل السلطة التي اتسعت فتحاتها لتمر من خلالها احداث الثورة وملايين الثائرين دون قدرة على التصدي الا بالوسائل التقليدية للقوة التي لم تعد تفيد الا في تعميق عزلة هذه النظم وفصلها عن قيم الحضارة المعاصرة واثبات ضرورة التخلص منها باعتبارها من أسوء مخلفات الماضي.

لقد وفرت التكنولوجيات الحديثة للشعوب المقهورة فرصا تاريخية لادراك الحرية والخلاص دفعة واحدة وبوسائل تتجاوز قدرة النظم المستبدة على كشف طبيعتها او مستخدميها .

على هذا الأساس يكن أن نتلمس عاملين مساعدين في ايصال الثورات العربية الى اهدافها”

الأول – هو الظرف الدولي الموائم الذي مثل البيئة الحاضنة للتغيير.

الثاني – هو المنجز التكنولوجي الذي تعددت أشكاله وتدنت كلفه ليصبح مبذولا للجميع وليؤدي دوره باعتباره من أدوات الثورة المباشرة.

والمفارقة هنا تكمن في ان المنجزات التكنولوجية التي وفرت للنظم امكانية التفنن في ابتكار وسائل القمع والتعذيب والاضطهاد لشعوبها هي نفسها التي اعطت للشعوب مفاتيح الحرية والخلاص. وعلى أساس مايعتقده الماركسيون وفق فرضية نفي وجود الثورات المباشرة دون ان تسبقها الحالة الثورية ( ليس هناك ثورة جاهزة ، ولكن هناك حالة ثورية ) فقد أدت التكنولوجيا دورها في بلورة الحالة الثورية وتجميع اجزائها وتوظيفها لتجعل منها ثورات مباشرة في الميدان .. اذن هي بحق ثورات الكومبيوتر والهاتف النقال والآيباد والآيفون والفيسبوك والتويتر.. ثورات التكنولوجيا فائقة السرعة رغم حداثة عهد العرب بها وباستخداماتها .. ثورات المعرفة المكثفة رغم تخلف العرب في مضمار علومها وابتكاراتها..

ثورات الترابط الأليكتروني في مجتمعات مففكة اجتماعيا وسياسيا .. حينما بدات التكنولوجيا بخلق ترابطات من نوع جديد عابرة للطبقة والمكون باتجاه المتعاملين بالمنجز التكنولوجي (( مستخدمي النت الفيسبوك والتويتر والهاتف النقال .. الخ )) أذ أصبح هؤلاء يشكلون شرائح اجتماعية جديدة تطور وعيها السياسي وبلغ مرحلة أكبر من عمر أكبرهم سنا وهم في الغالب من شريحة الشباب المتعلم فانتقلت بذلك صور الحاجة الى الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية والسلم الأهلي وبناء المجتمع المدني والتداول السلمي للسلطة وحرية الفكر والتعبير والمعتقد والحياة والعمل من شاشات الكومبيوتر الى ساحات الحرية في عواصم البلدان العربية لتضع النظم المستبدة ورموزها بين خيارين لاثالث لهما .. أما الرحيل أو مواجهة العالم كله متحدا في حيز تكنولوجي واحد.

ان كل ماقيل في ثورات الربيع العربي من حيث دوافعها وسيرورتها ونتائجها لايدخل في صلب اهتمام هذه الورقة كعنصر أساس في البحث .. لكن المهم هو كشف الدور الفاعل الذي ادته التكنولوجيات المعاصرة في هذه الثورات منذ اللحظات الأولى لاندلاعها وحتى وصول الكثير منها الى غاياتها النهائية المتتمثلة في اسقاط النظم المستبدة في تونس ومصر وليبيا واليمن والبقية تأتي تباعا. وهو دور مركزي لايمكن لأي كان ان يتجاهله لأنه أكبر من قدرة أي منا على فعل ذلك .. لقد أصبحت هذه التكنولوجيات في عداد الثائرين حينما وفرت لهم قدرة التواصل والعمل والتأثير ومنحتهم غطاء السرية التي يحتاجونها في مواجهة نظم القمع والاستبداد التي يعملون بالضد منها وحشدت العالم كله وراء مطالبهم عندما وضعتهم في الصورة مباشرة وفي اللحظة المناسبة وفوق كل ذلك رفعتهم فوق التناقضات الجهوية التي طالما تفاخرت نظم الاستبداد بانها صمام امان التوازن المطلوب فيما بينها ووضعتهم على عتبة توزيع جديد يقوم على أساس التميز بين المنفتحين على العالم من خلال نوافذه التكنولوجية وبين القابعين في دهاليزالسلطة وجهودها المستميتة في منع حصول اللقاء التاريخي بين شعوبها والعلم المعاصر ومنجزاته.

لقد وقف الكثير من رموز الاستبداد العربي على أطلال وخرائب المدن العربية التي دمروها ليتحدوا من يفكر بنزع ملكهم ولو في سره .. وداسوا جثث الضحايا في شوارع المدن المدمرة بأقدامهم ليعرف المخالفون مصيرهم .. ذلك لأن العالم ما كان يرى أو يسمع الا مايمر من بوابات النظام ولكن بعد حين.. لكنهم اليوم في مواجهة المنجز التكنولوجي الصغير الذي حطم جبروت هذه النظم دون سابق انذار ونقل السلطة من يد النظم الى يد الثائرين وحولهم وللمرة الأولى الى أصحاب حصريين للقرار القاضي ببقاء البعض أو زوال الآخر..

ان الدور الذي ادته التكنولوجيات الحديثة في اطار ثورات الربيع العربي يستحق الاشادة ولو كانت بشرا من لحم ودم لأستحقت التكريم المباشر باعتبارها الأب الروحي لهذه الثورات.

لكن ما أخشاه هو أن يتنكر الناس لفضل هذا الثائر الكبير كما يحصل دوما في تاريخ الثورات العظيمة حينما تاكل أبرز رجالاتها .. وأن ينقلبوا عليه بعد أن منحهم فرصة الخلاص وفتح لهم نوافذ الحرية على مصراعيها فيغلقوا نوافذ التفكير والتطور والتواصل مع الحضارة المعاصرة بدعوى البحث عن الخصوصية والتمسك بالهوية .. أخشى على ثورات الربيع العربي ان تغلق الباب ورائها فلا تستمر في حلفها المقدس مع التكنولوجيا ومنجزاتها خشية استمرار الانتقال السلس والسلمي للسلطة من يد الى اخرى تحت تأثير المراقب الثائر المسمى بالتكنولجيا الحديثة..

ان ماحصل من تلاحم نموذجي بين التكنولوجيا وبين ثورات الربيع العربي يجب ان يشكل علامة فارقة بين عصرين واعلانا صريحا عن الرغبة في التوظيف الايجابي لمنجزاتها في خدمة الانسان والمجتمع العربي ليس في زمن الثورة فحسب ولكن في مرحلة اعادة بناء الانسان والمجتمع الذي دمره التخلف على كافة الصعد وهذه هي المهمة الأصعب في المستقبل

Comments are disabled.